فصل: مسألة إذا خلع الرجل من ماله لغرمائه فإنه يترك له ما يعيش به هو وأهله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه:

قال: وسمعته يقول: إذا كانت أرض لرجل على أرض رجل وللأسفل موضع رحى في أرضه ليس له موضع ساقية، فيقول لجاره الأعلى: ائذن لي أشق بالنهر في أرضك فأمر الساقية فيها إلى رحائي، فيأذن له وتطحن الرحى، فيريد صاحب الأرض العليا أن يؤخر الساقية عن أرضه فيقول رب الرحى: قد أنفقت النفقات حتى طحنت رحائي، فلما استقامت أردت أن تبطلها علي، فقال: ينظر في ذلك، فإن كان قد وهبها له لم يكن ذلك له، وإن كان إنما أذن له فيها ولا يعرف أهبة أم شراء أم صدقة أحلف رب الأرض بالله لما تصدق عليه ولا وهب ولا كان ذلك الإذن منه إلا عارية، فإذا حلف نظر، فإن كان مضى لذلك من الأجل ما يرى أن مثل تلك العارية تكون إلى مثله في مثل ما اعتمره عاملها أخرج له صاحب الرحى وأعطاه رب الأرض قيمة ما أنشأ على تلك الساقية من عمل إن قلع كان له ثمن، وإن لم ينشئ شيئا أكثر من حفر الساقية وإجراء الماء فيها لمنفعته فلا أرى فيها قيمة عمل، وأرى له إخراجه منها، وإن لم يكن سكن مثل الذي يرى أن مثله عمل ذلك العمل إليه ثم أراد إخراجه لم يكن له ذلك حتى يتم أجل مثلها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الكتب، وقوله فيها إنه إذا لم يعلم على أي وجه أذن له في ذلك إن كان على الهبة أو العارية كان القول قوله مع يمينه أنه إنما أذن له في ذلك على سبيل العارية صحيح لا اختلاف فيه، إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، فإن نكل عن اليمين كان القول قول رب الساقية، وهذا إذا تداعيا في ذلك فقال صاحب الساقية: وهبتني، وقال صاحب الأرض: بل أعرتك، وأما إذا لم يدع صاحب الساقية على صاحب الأرض الإفصاح بالهبة وقال: إنما ظننت أنك تريد الهبة، وعلى ذلك حفرت الساقية، ولو علمت أنك لم ترد الهبة لما حفرتها وأراد أن يحلفه على ذلك لجرى ذلك على الاختلاف في لحوق يمين التهمة. وقوله إنه إذا حلف على العارية ومضى لها من الأجل ما يرى أنه أعاره إياه لم يكن له إلا قيمة نقضه منقوضا إن كان له فيما عمل فيها نقض هو مثل ما له في المدونة خلاف رواية المدنيين عن مالك، وأما قوله إن أراد إخراجه قبل أن يمضي من المدة ما يرى أنه أعاره إليه فليس ذلك له فهو خلاف ما له في كتاب العارية من المدونة لأن الذي له فيها إن له أن يخرجه ويعطيه قيمة بنيانه قائما، وبالله التوفيق.

.مسألة تكون المخاضة في أرضه فيريد أن ينشئ فيها رحى وذلك الرحى توعر المخاضة:

وسألته عن الرجل يتخذ في أرضه رحى فيسد النهر حتى إذا انتهى إلى آخر السد إلى البرية عرض له رجل من فوقه جرف فيقول: لا تسد إلى موضع جرفي إني أخاف إذا خنق الماء من أسفل وجاء السيل أن يحفر الجرف فيذهب أرضي، فنظر فيه فوجد ذلك إذا كان السيل ربما احتفر فكان كذلك، وربما نجا فلم يضر بأرضه ولم يحتفر، قال ابن القاسم: لا أرى أن يمنعه بذلك من سد النهر إلى موضع الجرف لأنه قد احتج بضرورة وعساها ألا تنزل أبدا به فيمنع هذا لما يخاف أن يجيء أو لا يجيء من منافعه الحاضرة لشيء لا يدري أيكون أم لا؟ وأرى أن يعمل ولا يمنع، قال: فأما لو نظر إليه أهل البصر بعمل الأرحية والأنهار فقالوا: إنه لا شك أنه إن جاء سيل إن كان على صاحب الجرف فذهب بأرضه لرأيت له قلع ذلك السد وكل ما يخشى ضرره في أرضه مما هو آت لا شك فيه، وليس هذا مثل الأول أن يقول: ربما أفسده البنيان أو ربما سلم، هذا لا يمنع من العمل لشيء لا يدري أيكون أم لا يكون؟ وهذا الأمر الآخر هو الذي لا أشك فيه ولا يترك وإنشاء الضرر عليه في أرضه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا في هذه المسألة إنه لا يمنع من منافعه الحاضرة لشيء لا يدري هل يكون أم لا صحيح وليس بمعارض على ما ظنه بعض الناس لما وقع في رسم الصبرة من سماع يحيى في الذي تكون المخاضة في أرضه فيريد أن ينشئ فيها رحى وذلك الرحى توعر المخاضة أو تغرقها أنه يمنع من العمل، فإن لم يتيقن الضرر بالمخاضة إلا بعد الفراغ من العمل قيل له: إن الذي يريد من العمل يخاف عاقبته، فإن زعمت أنه غير مضر فاعمل، فإن تبين ضرر عملك أبطلناه عليك ورددنا المخاضة على حالها، فإن شاء أن يعمل على ذلك عمل. والفرق بين المسألتين أن الضرر في مسألة سماع يحيى وإن كان لا يتبين قبل العمل فهو يتبين بعده، فإن تبين بعده قدر على إزاحته، وما يخاف ويتقى في هذه المسألة ليس له حد معلوم إذ لا يتبين بتمام العمل، ولعله لا يقع ولا يقدر على إزاحته أيضا إن وقع، ولا يصح أن يقال للذي يريد العمل اعمل على أنه إن وقع ما يخاف لزمك الضمان، إذ لا يدرى متى يقع إن وقع، ولعله لا يقع إلا بعد موته وبعد انتقال الأملاك، وهذا بين والحمد لله.

.مسألة وجه المنفعة بالماء السقي:

وسألته عن النهر الصغير تكون عليه الأرحية والأجنة والكروم والشجر فيسقي بماء ذلك النهر أهل كل قرية شجرهم وأجنتهم والأرحية بعضها فوق بعض إلى آخر النهر والقرى على النهر فيشربون من مائه ويردون عليه بمواشيهم فيقل ماؤه في الصيف من أجل ما كثر عليه من السداد سداد الأرحية فلا يأتي القرى السفلى من الماء ما يسقون به ويردونه بمواشيهم، وربما جفت شجرهم، قال: أرى أن يهدم الوالي تلك السداد إذا علم أن الماء سيأتيهم عامة بهدم السداد ويكون ذلك منفعة للقرى فأرى أن يأمر بخرق السداد إلا أن يخرج من أرض قوم وحوزهم فيكونون أولى بذلك وأحق حتى يفرغوا من حاجتهم، ثم يكون الأسفلون كلهم فيها بالسوية، ثم يقسم أهل كل قرية ماءهم إذا كانوا يحتاجون إليه على قدر ما لهم في القرية، قال: وإن كان لأحدهم شرب معلوم من أهل القرية الأسفلين أعطيه إذا ثبت ذلك له إذا أحقه ببينة عدول أو أمر بين.
قلت: فإن كانوا يردون آبارا لهم وعيونا بمواشيهم وكان نهرهم كما وصفت لك من الأرحية والأجنة والشجر فقل ماء النهر في الصيف أترى أن يخرق تلك السداد ويسقي الناس شجرهم وأجنتهم ويبطل الأرحاء؟ فقال: نعم أرى ذلك إذا كان خرقها يبلغ إليهم ويتمتعون به رأيت ذلك ورأيت ألا يمنعوا منافعهم من ذلك، فإن رأى أن ذلك الخرق في السداد لا ينفعهم ولا يسقون به شيئا لم أر خرق تلك السداد إذ لا ينفعهم ولا يسقون به شيئا. فلا أرى لهم أن يخرقوه.
قال الإمام القاضي: وقعت هذه المسألة في بعض الكتب، وهي مسألة صحيحة بينة لا وجه للقول فيها لأن وجه المنفعة بالماء السقي، فهو مقدم على الطحن، فإذا قل الماء ولم يمكن السقي به إلا بهدم السداد وجب أن تهدم، والله الموفق.

.مسألة النهر الكبير الذي يكون عليه السواني والأرحية:

وسألته عن النهر الكبير الذي يكون عليه السواني والأرحية فيكثر ذلك فيقل ماؤه في الصيف فيسد الأعلى رحاه فيحبس الماء ليلة وبعض يوم ثم يرسله فيطحن رحاه ويسقي شجره، ثم يتولاه الذي يليه فيفعل مثل ذلك، فربما بقي الأسفل لا يطحن رحاه أياما يحبس الأعلون الماء عنه، قال: أرى للوالي أن يأمر رجالا أمناء كل قوم بناحيتهم فيمنعون من سد ذلك الماء ولا يدعونهم وذلك، ويرسلونه إذا كان في إرساله للأسفلين في طحينهم وأجنتهم منفعة، قال: فإن لم يكن لهم في ذلك منفعة تركوا وذلك ولم أر أن يمنعوا من منافعها إذا لم يضروا بأحد.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت أيضا في بعض الكتب، وهي بينة لا وجه للقول فيها، والله ولي التوفيق برحمته.

.مسألة اشترى من رجل حظه في قرية من عامرها وغامرها ولم يعرف حد ما اشترى:

قال ابن القاسم: من اشترى من رجل حظه في قرية من عامرها وغامرها ولم يعرف حد ما اشترى في تلك القرية من الشعراء ولا حد ما يصير للبائع ولا كم جزء ينقسم فلا يجوز الاشتراء وأراه بيعا مفسوخا.
قلت لابن القاسم: فإن كل المشتري قد غرس من تلك الشعراء ما كان يصير لصاحبه أو دونه قليلا؟ قال: أرى ذلك قد فات بعمارته لأنه قد دخلها نماء ويمضي البيع ويقوم الحظ كله العمران والشعراء والدور على المعرفة بها بعد رؤيتها جميعا ويعطى البائع تلك القيمة ويمضي البيع للمشتري.
قلت: فإن كان المشتري عمر من الشعراء الشيء اليسير؟ قال: أرى أن يرد البيع ويفسخ ويعطى هذا قيمة مثله في عمله يوم يحكم فيها، وإنما هو عندي بمنزلة الرجل يشتري دارا بيعا مفسوخا فيهدم منها بيتا أو يبني فيها بيتا فإن ذلك لا يفوت له ردها.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا في بعض الكتب في بعض الروايات وهي صحيحة، قوله فيها: إن البيع فاسد إذا لم يدر قدر ما اشترى كما قال، ومعناه إذا لم يعرف البائع أيضا قدر ما باع، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه لأن البيع لا يجوز إلا أن يكون معلوما في معلوم إذ لا يصح فيه المجهول «لنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الغرر»، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع لأنها تنقسم إلى سبعة أقسام، فمن أحب الوقوف عليها وأراد الشفاء منها تأملها في موضعها المذكور، وتفرقته إذا كان البيع في الحظ المشترى فاسدا بين أن يغرس من الشعراء اليسير جدا أو ما له منها قدر وبال صحيح أيضا، وقد مضى بيانه والقول فيه في كتاب جامع البيوع في أول رسم من سماع أشهب منه وفي نوازل أصبغ أيضا فلا معنى لإعادته، والله ولي التوفيق برحمته، وله الحمد كثيرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
انتهى كتاب السداد والأنهار بحمد الله وعونه.

.كتاب المديان والتفليس الأول:

.مسألة العبد يستتجره سيده ثم يفلس وعليه دين للناس:

كتاب المديان والتفليس الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس قال ابن القاسم: قال مالك في العبد يستتجره سيده ثم يفلس وعليه دين للناس: إن سيده لا يحاص الغرماء بما كان في يد العبد من المال الذي استتجره به إلا أن يكون أسلفه سلفا أو باعه بيعا فإنه يحاص به الغرماء، فإن باعه بيعا وكتب عليه دينا كثيرا لا يشبه مال العبد فإن الغرماء أولى به إلا أن يكون ارتهن منه رهنا فهو أولى برهنه، وإن كان الذي كتب عليه سيد العبد يشبه مال العبد فهو يحاص الغرماء به، قال سحنون: وإنما يكون أولى بالرهن إلى مبلغ قدر قيمة سلعته وما يشبه أن يكون ثمن سلعته، فأما ما لا يشبه أن يكون ثمن سلعته فلا يكون أولى به إلا بقدر قيمة سلعته، ويسقط الفضل الذي ازداد على قدر قيمة السلعة.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن العبد إذا استتجره سيده ثم فلس وعليه ديون للناس أن سيده لا يحاص الغرماء بما دفع إلى العبد من المال الذي استتجره به ولا فيما أسلفه أو باعه دون محاباة كالأجنبي يحاص الغرماء بما أسلفه وبثمن ما باعه، وإن كان ارتهن منه بذلك رهنا كان أحق به من الغرماء، واختلف إن كان باعه بيعا حاباه فيه العبد على قولين: أحدهما أنه لا يحاص الغرماء بشيء ويبطل جميع دينه، وهو ظاهر هذه الرواية وما في كتاب المأذون له في التجارة من المدونة، والثاني أنه يبطل الزائد على قيمة السلعة ويحاص الغرماء بقيمة سلعته، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول وإن معنى قوله في هذه الرواية وفي المدونة إن الغرماء أولى به يريد بالزائد على قيمة سلعته وإن له أن يحاصهم بقيمة سلعته، وهو الصحيح في النظر وإن كان ظاهر ما في هذه الرواية وما في المدونة خلافه، واختلف إن كان ارتهن منه رهنا بجميع دينه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يكون أحق برهنه بجميع ما رهنه به، وهو ظاهر هذه الرواية وما في المدونة، والثاني أنه يكون أحق برهنه إلى قدر قيمة سلعته ويبطل الزائد، وهو قول سحنون، والثالث أن الرهن يفسخ ويكون أسوة الغرماء بقدر قيمة سلعته، وهو قول ابن القاسم من رواية عيسى عنه في سماع ابن القاسم من كتاب الرهون، وقد قيل: إن قول سحنون مفسر لقول ابن القاسم، وهو الصحيح في النظر، فترجع المسألة إلى قولين: أحدهما أنه أولى برهنه إلى مبلغ قيمة سلعته، والثاني أنه لا يكون أولى به ويحاص الغرماء بقيمة سلعته، وبالله التوفيق.

.مسألة إذا خلع الرجل من ماله لغرمائه فإنه يترك له ما يعيش به هو وأهله:

قال ابن القاسم: قال مالك: وإذا خلع الرجل من ماله لغرمائه فإنه يترك له ما يعيش به هو وأهله، وإن واجر نفسه فكذلك، العتبي: وكذلك قال لي سحنون: يترك له قدر كسوته ولا يترك قدر كسوة امرأته، قال ابن القاسم: أرى أن يترك له ما يكفيه أياما هو وزوجته وولده إن كان ولد صغار، وتترك لبسته إلا أن يكون فيها فضل عن لبسة مثله، وإن كان ما له من ذلك الشيء اليسير الذي لا خطب له ترك له ما يعيش به الأيام.
قال محمد بن رشد: قوله: يترك له ما يعيش به هو وأهله يريد الأيام على ما قاله ابن القاسم وعلى ما في المدونة، وهي العشرة ونحو ذلك، وقال مالك في الواضحة وكتاب ابن المواز قدر الشهر، وليس ذلك عندي باختلاف من القول، وإنما هو على قدر الأحوال وما جرى به العرف من تقوت أهل ذلك المكان، وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له شيء، وهو قول ابن كنانة ووجه القياس، والأول استحسان، ووجهه أن الغرماء قد علموا أنه ينفق على نفسه وعياله فكأنهم عاملوه على ذلك، وأهله الذين يترك لهم النفقة الأيام أو الشهر على ما ذكرناه من التفصيل في ذلك هم أزواجه وكل من تلزمه النفقة عليه من صغار ولده وأمهات أولاده ومدبراته، ولم ير سحنون أن يترك له قدر كسوة امرأته، وشك مالك في ذلك في المختصر لأنها لا تجب إلا بمعاوضة وبطول الانتفاع بها فيكون ذلك كالنفقة لها بعد المدة المؤقتة، وهذا عندي إنما هو في ابتداء كسوتها، وأما إذا فلس وعلى زوجته كسوة قد كساها إياها لا فضل فيها عن كسوة مثلها وهو قائم الوجه فليس للغرماء أن يستردوها منها قولا واحدا، والله أعلم، لأن الغرماء قد دخلوا معه على ذلك. وقوله في هذه الرواية وإن واجر نفسه فكذلك معناه، وإن واجر نفسه ففضل عن نفقته ونفقة أهله فضل أنه يؤخذ منه وبالله التوفيق.

.مسألة اكتتب ذكر حق على رجل وأشهد له أنه إذا جاء بذكر الحق فهو براءته:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول فيمن اكتتب ذكر حق على رجل وأشهد له أنه إذا جاء بذكر الحق فهو براءته، فجاء به فادعى أنه سرقه فقال: إذا جاء به ترك واحلف بالله ما اغتلته وبرئ، وذلك مما يجوز بين الناس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه لأنه لما أشهد له أنه إن جاء به فقد برئ فأتى به وجب أن يكون القول قوله مع يمينه إنه لم يأخذه إلا بعد أن أدى ما عليه فيه لاسيما إذا ادعى عليه فيه سرقته وهو ممن لا تليق به السرقة، ولو أتى به فادعى أنه قد أدى ما عليه فيه ولم يكن صاحب الحق أشهد له أنه برئ إن أتى به لما برئ بالإتيان به ولكان القول قول الطالب إن ادعى أنه سرق منه أو ضاع له فسقط إليه وما أشبه ذلك، وكذلك على مذهب سحنون إن ادعى عليه أنه سرقه منه، ومعناه عندي إذا كان ممن يليق به ما ادعاه عليه من السرقة، وأما إن ادعى أنه دفعه إليه ليدفع إليه حقه فلم يفعل فيتخرج في ذلك قولان: أحدهما أن القول قول المطلوب، وهو الذي يأتي على ما في رسم العرية من سماع عيسى من هذا الكتاب في مسألة الذي يقوم على رجل بذكر حق ممحو فيقر أنه محاه وظن أنه قضاه، وعلى ما في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون في مسألة الرهن يوجد بيد الراهن فيدعي أنه قد أدى ما عليه فيه، والثاني أن القول قول الطالب إن كان بالقرب على ما في نوازل سحنون من كتاب الرهون، وإشهاده للذي عليه الحق أنه إن جاء بذكر الحق فقد برئ خلاف إشهاده على أنه من جاء به اقتضى ما فيه على ما يأتي له في رسم سن من هذا السماع ورسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وبالله التوفيق.

.مسألة يبارئ امرأته وهي حامل على أن تكفيه مؤونة رضاع ولدها:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول في شريكين تحاسبا فكتب أحدهما لصاحبه البراءة من أخذ حق قبله ثم جاء بذكر حق قبله لم يقع في أصل البراءة اسمه فادعى صاحب البراءة أنه قد دخل هو وغيره في البراءة، قال: يحلف بالله لقد دخل في حسابنا ويبرأ منه لأن القوم إذا تحاسبوا دخل أشباه هذا بينهم، فلو كان كل من جاء منهم بعد ذلك بذكر حق فيه شهد آخر بما فيه لم يتحاسبوا ليبرأ بعضهم من تباعة بعض.
قال الإمام القاضي: هذا بين لا إشكال فيه ولا اختلاف لأن ذكر الحق الذي قام الطالب به قبل البراءة، وإذا كان قبلها فالقول قول المطلوب أنه قد دخل في البراءة، لأن الحقوق إذا كانت لرجل على رجل بتواريخ مختلفة فالبراءة من شيء منها دليل على البراءة مما قبله، وهذا من نحو قولهم فيمن أكرى دارا مشاهرة أو مساناة إن دفع كراء سنة أو شهر براءة للدافع مما قبل ذلك، ومثل ذلك ما وقع في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك في الذي يبارئ امرأته وهي حامل على أن تكفيه مؤونة رضاع ولدها ثم تطلبه بنفقة الحمل فقال: إنه لا شيء عليه من ذلك لأنه يعرف أنه لم يكن يمنعها الرضاع ويعطيها هذا، وإنما الاختلاف إذا قام بذكر حق فادعى أنه بعد البراءة، وزعم المطلوب أنه قبل البراءة وأنه قد دخل فيها، وفي ذلك ثلاثة أقوال قد مضى تحصيلها في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا من هذا الكتاب، وفي نوازل سحنون ورسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ منه، وبالله التوفيق.

.مسألة هلك وقبله ودائع للناس وقراض لا يعرف شيء منها بعينه وعليه ديون:

قال: وسمعت مالكا يقول فيمن هلك وقبله ودائع للناس وقراض، وعليه ديون، فلما هلك لم يوجد عنده شيء من ذلك يعرف ولم يوص، قال: يتحاصون جميعا فيما ترك إلا أن يوصي في مال بعينه فيجوز لمن أوصى له به من قراض أو وديعة لمن لا يتهم عليه، قال ابن القاسم: وأما في الفلس فلا يصدق لأنه لو أقر عند الموت بدين لأجنبي جاز إقراره، ولو أقر به في الفلس لم يجز إقراره.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن هلك وقبله ودائع للناس وقراض لا يعرف شيء منها بعينه وعليه ديون إنهم يتحاصون جميعا فيما ترك إلا أن يوصي في مال فيجوز لمن أوصى له به من قراض أو وديعة لمن لا يتهم عليه صحيح لا اختلاف في شيء من ذلك كله أعلمه. وأما قوله: إنه لا يصدق في التفليس فيما أقر به من قراض أو وديعة ففي ذلك اختلاف كثير، قيل: إن ذلك جائز يريد مع يمين المقر لهم، وهو أحد قولي مالك في رسم العرية من سماع عيسى، وقيل: إنه لا يجوز، وهو قول ابن القاسم ههنا، وفي آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة، وفي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، وفي رسم الأقضية من سماع أشهب، وقيل: إنه يجوز إن كان على الأصل بينة ولا يجوز إذا لم تكن على الأصل بينة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقد قيل في رواية أبي زيد: إنها مفسرة لأحد القولين، ولا اختلاف أنه لا يجوز إقراره بعد التفليس بدين لأجنبي ولا لغيره. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من كتاب تضمين الصناع، وبالله التوفيق.

.مسألة قال لامرأتي علي من مهرها كذا وكذا وله ولد من غيرها أو ولد منها:

قال: قال مالك: ومن قال: لامرأتي علي من مهرها كذا وكذا، قال: ذلك في مرضه وله ولد من غيرها أو ولد منها لم يتهم أن يولج إليها ذلك دون ولده.
قال محمد بن رشد: قوله: ولد من غيرها أو ولد منها كلام مجمل لأن الولد يقع على الصغير والكبير وعلى الواحد والجميع، وعلى الذكر والأنثى، والحكم في ذلك يختلف، ويختلف أيضا باختلاف حاله معها، فالذي يتحصل عندي في هذه المسألة على منهاج قول مالك وأصحابه- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- أن حال الرجل المقر لامرأته معها لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يعلم منه ميل إليها وصبابة بها، والثاني أن يعلم منه الشنآن لها والبغض فيها، والثالث أن يجهل حاله معها ومذهبه فيها، فأما إذا علم منه ميل إليها وصبابة بها فلا يجوز إقراره لها إلا أن يجيز ذلك الورثة، وأما إذا علم منه البغض فيها والشنآن لها فإقراره جائز لها على الورثة، وأما إذا جهل حاله معها في الميل إليها والبغض فيها فلا يخلو أمره من وجهين: أحدهما أن يورث بكلالة، والثاني أن يورث بولد، فإذا ورث بكلالة فلا يجوز إقراره لها، وأما إذا ورث بولد فإن الولد لا يخلو من أن يكونوا إناثا أو ذكورا، صغارا أو كبارا، واحدا أو عددا، منها أو من غيرها، فأما إن كان الولد إناثا يرثنه مع العصبة فسواء كن واحدة أو عددا، صغارا أو كبارا من غيرها أو كبارا منها يتخرج ذلك عندي على قولين: أحدهما أن إقراره جائز، والثاني أنه لا يجوز من اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، فإن كن صغارا منها لم يجز إقراره لها قولا واحدا، وأما إن كان الولد ذكرا وكان واحدا فإقراره لها جائز، صغيرا كان الولد أو كبيرا، منها أو من غيرها، وأما إن كان الولد ذكورا عددا فإقراره لها جائز إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا من غيرها فلا يجوز إقراره لها، فإن كان الولد الكبير في الموضع الذي ترفع التهمة عن الأب في إقراره لزوجه عاقا له لم ترفع التهمة عنه وبطل الإقرار على ما في سماع أصبغ وإحدى الروايتين في المدونة، وإن كان بعضهم عاقا له وبعضهم بارا به يخرج ذلك على ما ذكرته من الاختلاف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، وكذلك الحكم سواء في إقرار الزوجة لزوجها، ولا فرق أيضا بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين أو يقر أنه قبض منه ماله عليه من دين، وبالله التوفيق.

.مسألة باع من رجل راويتي زيت بعشرين دينارا فقبض عشرة دنانير وبقي عشرة ففلس:

ومن كتاب قطع الشجر من سماع ابن القاسم:
قال ابن القاسم: وسئل مالك عمن باع من رجل راويتي زيت بعشرين دينارا فقبض عشرة دنانير وبقي عشرة ففلس المشتري وقد باع راوية وبقيت في يده راوية فأراد البائع أخذها بعينها، قال: أما في هذا الوجه فإني أرى حين اقتضى عشرة أنه قبض نصف ثمن كل راوية، فأرى أن يرد خمسة دنانير نصف ثمن الراوية التي أدرك بعينها، ثم يكون أحق بها من الغرماء، وكذلك أيضا لو باع عشرة روايا زيت بمائة دينار ثم اقتضى خمسين وبقيت له خمسون فأفلس المشتري وقد باعها إلا راوية واحدة فأراد البائع أخذها ولا يدخل الغرماء فيها أنه يرد خمسة دنانير نصف ثمن الراوية هذه التي أدرك، وذلك أنه حين قبض خمسين دينارا فقد اقتضى نصف ثمن كل راوية، فعلى نحو هذا يكون فيما نرى، وما كان من هذا الصنف وما أشبهه من الأعدال التي تباع بالمال العظيم وأثمانها مستوية في جملة واحدة فينتقد بعض الثمن فإنه ما انتقد من الثمن إنما ينتقده من ثمن جميعها إن كان قليلا أو كثيرا، فعلى هذا يحسب إذا نزل مثل هذا الأمر في المفلس، فكل ما كان من هذا النحو فإن الأمر فيه إذا جاءت فيه هذه المنزلة مثل ما وصفنا فيمن وجد ماله بعينه وقد أخذ بعض الثمن وباع بعضا، وقد فسرنا ذلك في موضع غير هذا، فذلك كذلك، قال مالك: إلا أن يشاء الغرماء في الراوية إذا وجدها أن يدفعوا إليه ما بقي من ثمنها ويأخذوها فذلك لهم.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة فيها في المذهب قولان: أحدهما هذا أن العشرة المقبوضة من ثمن الراويتين تفض على ما باع منها المبتاع المفلس وعلى ما وجد قائما بيده، فلا يكون للبائع أن يأخذ الراوية التي أدرك بيد المبتاع إلا أن يرد ما نابها من العشرة المقبوضة كما لو باعها على حدة بعشرة فاقتضى من ثمنها خمسة، والقول الثاني أنه ليس للبائع أن يأخذ الراوية التي وجد إلا أن يرد جميع العشرة التي قبض، فإن أراد ذلك قبض الراوية التي وجد وكان أسوة الغرماء بالعشرة الأخرى التي هي ثمن للراوية الفائتة، وهو قول مالك في الموطأ لأنه قال فيه: فإن قبض من ثمن المتاع شيئا فأحب أن يرده ويقبض ما وجده من متاعه ويكون فيما لم يجد أسوة الغرماء فذلك له، وهذا القول أقيس لأنها صفقة واحدة فلا تبعض، ووجه القول الأول أنه لما افترق حكم ما فات مما لم يفت حكم لكل واحد منهما بحكم ما اشترى على حدة بعد أن يقبض الثمن على الجميع، ويأتي على مذهب الشافعي في هذه المسألة أنه يأخذ الراوية التي أدرك بالعشرة التي بقيت له ولا يرد شيئا، وتكون العشرة التي قبض ثمنا للراوية التي فاتت، وأهل الظاهر يقولون: إنه إذا قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء بجميع ما بقي له منها، ولا يكون له حق في أخذ شيء مما أدرك بدليل قوله في الحديث: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به». وقوله في آخر المسألة قال مالك: إلا أن يشاء الغرماء في الراوية التي وجدها أن يدفعوا إليه ما بقي من ثمنها ويأخذوها فذلك لهم صحيح على قياس قوله في أول المسألة، يريد ويضرب بما بقي من دينه معهم، ويأتي على ما في الموطأ أن ذلك ليس لهم حتى يدفعوا إليه جميع دينه، وهو نص قول مالك في رواية ابن وهب عنه، ولو جد الراويتين جميعا وقد قبض بعض ثمنهما كان مخيرا بين أن يسلفهما ويكون أسوة الغرماء بما بقي له وبين أن يرد ما قبض ويكون أحق بهما قولا واحدا في المذهب خلافا لأهل الظاهر في أنه أسوة الغرماء ولا خيار له، وخلافا للشافعي في أنه يكون له من الراويتين بحساب ما بقي له من الثمن، وبالله التوفيق.

.مسألة له على رجل دين فقضاه واكتتب منه براءة:

وسئل عمن كان له على رجل دين فقضاه واكتتب منه براءة فيها: وهو آخر حق كان له عليه فيأتيه بعد ذلك بذكر حق لا يعلم أكان قبل البراءة أو بعدها، قال: أرى براءته من ذلك أن يحلف لقد دخل هذا الذكر حق في هذه البراءة ويبرأ من ذلك، ولعله أن يأتي عليه بذلك بعد موته فلا يكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الطالب أتى بذكر حق أشكل إن كان قبل البراءة أو بعدها إما لكونهما مؤرخين بشهر واحد أو عاريين من التاريخ أو أحدهما فلا يعلم المتقدم من المتأخر منهما، ووقع قوله فيها لا يعلم أكان قبل البراءة أو بعده معرى من الضبط، فإن كان أراد أن الطالب لا يعلم إن كان ذكر الحق الذي قام به قبل البراءة أو بعدها فإيجابه اليمين على المطلوب لقد دخل هذا الذكر حق في هذه البراءة مختلف فيه لأنها يمين تهمة من غير تحقيق دعوى، فيجري على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة وصرفها؛ وإن كان أراد أن الطالب ادعى أن ذكر حقه الذي قام به بعد البراءة وحقق الدعوى بذلك ولم يعلم صحة قوله لالتباس التواريخ فلا اختلاف ولا إشكال في لحوق اليمين في ذلك ولا في وجوب صرفها، إلا أنه اختلف هل يكون القول قول الطالب أو قول المطلوب على ما ذكرناه من الاختلاف في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.